يُحكى أنّه في زمن بعيد من قديم الأزمان، أهدى أحد الرعية نسرين صغيرين لملك من الملوك. كانا نسرين من فصيلة مميزة، وقد أُعجب بهما الملك أشدّ الإعجاب، فأمر بإحضار شخص خبير ومختصّ ليعتني بهما حتى يكبرا، وذلك ما كان.
مرّ الوقت سريعًا، وكبر النسران وازداد جمالهما وقوّتهما حتى انبهر بهما كلّ من في البلاط الملكي. وفي أحد الأيام، بينما كان الملك في نزهته اليومية إلى الحديقة، رآى نسريه الصغيرين وقد تحوّلاً إلى طائرين كبيرين ذوا أجنحة قويّة بدا وكأنها ستحلّق بهما إلى أقاصي الأرض دون أن ينالها تعب أو كلل.
فرح الملك بما أصبح عليه النسران، وقال على الفور مخاطبًا المكلّف بالاعتناء بهما:
“أريد رؤيتهما وهما يطيران، فأعطهما الإشارة ودعهما يحلّقان عاليًا…”
وفي الحال، قام الرجل راعي النسرين بإعطاء إشارة خاصّة للنسرين، فرفرفا بجناحيهما على الفور وانطلقا محلّقين. وفيما كان أحدهما يعانق عنان السماء بجناحيه، اكتفى الآخر بالتحليق قريباً من الأرض، ثمّ استقرّ من جديد على غصن الشجرة الذي بدأ منه.
استغرب الملك ما رآه، وانتابه الفضول تجاه هذا التناقض في سلوك النسرين، على الرغم من أنّهما تدرّبا على يد الشخص نفيه، وتحت الظروف نفسها.
“ما القضية هنا؟ لم يحلّق أحد النسرين عاليًا فيما يرفض الآخر مغادرة الغصن؟”
وأجاب المدرّب قائلاً:
“هذه بالذات المعضلة واللغز المحيّر، هذا النسر يرفض الطيران، ولا يبرح ذلك الغصن إطلاقًا!”
كان النسران غاليين على الملك، وكان يرغب بشدّة في رؤية النسر الثاني يحلّق كشقيقه معانقًا السماء. لذا، وبمجرّد أنّ حلّ صباح اليوم التالي، حتى أعلن في المملكة بأسرها أنّ الشخص القادر على جعل النسر يطير عاليًا سيحصل على جائزة ثمينة من الذهب والمجوهرات.
وبمجرّد أن انتشر الخبر، حتى أقبل المثقّفون والأطباء والخبراء والعلماء على القصر الملكي يحاولون تطبيق كلّ خبراتهم ومعارفهم على النسر المسكين، بيْدَ أنّ كلّ محاولاتهم باءت بالفشل، وبقي النسر محافظًا على مكانه على غصن الشجرة، ثابتًا فيه ليلاً نهارا…
مرّت الأسابيع دونما أيّ تحسّن، وفقد الناس الأمل منه ومن طيرانه، بل حتّى الملك نفسه، بدا محبطًا، وكاد يفقد الأمل في علاج نسره وحلّ عقدته مع الطيران.
وفي أحد الأيام، ودونما أيّ سابق إنذار بينما كان الملك يقوم بجولته المعتادة، إذا به يرى النسرين معًا يحلّقان عاليًا، يتسابقان في السماء، ويعانقان الغيوم بأجنحتهما الكبيرة القوية.
لم يصدّق الملك عينيه، واستدعي الشخص المكلّف بالعناية بهما ليتأكد منه من حقيقة ما يراه:
“نعم يا مولاي، النسر الثاني يحلّق أيضًا عاليًا، فقد نجح أحد الرجال في جعله يغادر الغصن وينطلق إلى السماء”
هذا ما قاله مدرّب النسرين، وهنا أمر الملك بإحضار هذا الشخص الذي تحقّقت معجزة النسر على يده، وذلك ما كان.
تمّ استدعاء الشخص المجهول حيث كان الملك ينتظره بحماس ومعه الجائزة الثمينة التي وعد بها من ينجح في علاج النسر. وحينما حضر هذا الأخير، كان مزارعًا عجوزًا بدت عليه إمارات الطيبة والبساطة. فسأله الملك عن السرّ والحيلة التي اتبعها لجعل النسر يحلّق عاليًا.
“لقد قطعتُ الغصن الذي اعتاد النسر الوقوف عليه، هذا كلّ ما في الأمر!”
كان هذا جواب المزارع البسيط. وبعد أن قدّم له الملك جائزته الموعودة، أردف قائلاً:
“أنا مسرور منك أيّها المزارع الطيب، لكن أخبرني… كيف خطرت لك هذه الفكرة الرائعة التي عجز كبار العلماء، وأفضل الخبراء والدارسين عن الوصول إليها؟”
وأجاب المزارع:
“مولاي، أنا مزارع بسيط، لا أملك علم العلماء، ولا حكمة العظماء، كلّ ما فعلته هو أنّي قطعت الغصن الذي اعتاد النسر الوقوف عليه، وحينما لم يجد خيارًا آخر غير الطيران، كان ذلك ما فعله، وهو ما خلق لأجله… خُلق ليحلّق عاليًا!”
العبرة المستفادة من القصّة
كما لم يدرك النسر قدرته الحقيقة على التحليق عاليًا، وفضّل البقاء على غصن الشجرة، كذلك الحال مع العديد منّا…
في كثير من الأحيان نقلّل من قيمة أنفسنا، ولا ندرك طاقاتنا الكامنة. نعتاد في الحياة على القيام أمور محدّدة، ونستمرّ في القيام بها يومًا بعد يومًا حتى ننسى قوانا الحقيقية ومقدرتنا الهائلة على التحليق عاليًا.
جميعنا خُلقنا لنحلّق عاليًا في الحياة، كلّ في مجاله الخاصّ…
لكننا -كما كان الحال مع النسر الثاني- نفضّل البقاء حيث نحن، في منطقة الراحة الخاصّة بنا. ومثلما حدث مع النسر بعد أن قُطع غصن الشجرة ووجد هذا الأخير نفسه مضطرًّا للطيران، فانطلق عاليًا يحلّق في السماء، لابدّ لنا نحنُ أيضًا أن نقطع غصن الراحة الخاصّ بنا أيَّا كان، وأن نتحدّى أنفسنا لنغادره ونطلق العنان لطاقاتنا الكامنة.
تذكّر دائمًا أن الأمور العظيمة ستحدث خارج حدود منطقة الراحة.
تعلّمنا هذه القصة القصيرة الملهمة درسًا مهمًّا آخر، وهو أنّنا قد نحتاج في بعض الأحيان إلى التشجيع اللطيف والتدريب الناعم الهادئ (كما هو الحال مع مدرّب النسرين الذي عيّنه الملك). لكننا في أحيان أخرى قد نحتاج إلى أمر أقوى… إلى شيءٍ يهزّ كياننا ويقلب حياتنا رأسًا على عقب كي نكتشف قوّتنا الحقيقية، وإمكاناتنا الفعلية تمامًا كحادثة قطع الغصن في القصّة!
وكما هو الحال مع السفينة التي لم تُخلق لترسو في الميناء، والنسر الذي لم يُخلق ليقف على غصن شجرة، أنت أيضًا لم تخلق لتعيش حياة بائسة…
خُلقت خليفة في الأرض، لتعمرها، وتعيش نعمها… وتحقّق فيها النجاحات والإنجازات… هنالك في الحياة الكثير من الفرص، الكثير من اللحظات الرائعة، الكثير من المغامرة والتشويق والفرح والسعادة والإنجاز ممّا لا يمكنك أن تحصل عليه ببقائك حيث انت، في منطقة الراحة الخاصّة بك…
فلا تستسلم…وانطلق ولا تخف… لأنك خُلقت لتحلّق عاليًا!
بقلم الكاتبة : دلال قصري